هكذا تبدأ الصباحات العربية، راديو يبث أغانِ
لفيروز وفنجان قهوة ورائحة التدفئة سواء كانت تعتمد على الكاز أو الغاز أو حتى
السولار، فالدفء رائحة تبقى عالقة في الذاكرة، ويستحضرها الوجدان كلما اقترب من
الضيق ليرجع إلى أيام زمان هربا.
وعلى سيرة الهرب، ربما لم يعد ذلك الوصف مشابها للصباحات العربية اليوم، ربما كانت هذه المقدمة ممكنة في زمن ما لبدء الحديث عن فيروز أو جارة القمر كما لقبت منذ عشرات السنين، ومن أجل رائحة الدفء واحتراما للذاكرة وتقديرا لخطة العقل البشري بالهروب من الواقع إلى الماضي سأبقي المقدمة كما هي.
كثيرة هي المقالات والتقارير التي تحدثت عن فيروز كأيقونة للغناء والموسيقى، كثرت ألقابها وتعددت عبارات مدحها والإعجاب بصوتها وتفردها بما قدمته، كثيرة هي المقالات أيضا التي تحدثت عن فيروز والسياسية كيف تقاطعت الأغاني مع أحداث مفصلية في عمر الأوطان والحروب الأهلية والصراعات الطائفية، إلا أن فيروز وأغانيها كانت نموذجا للحديث عن المرأة الضعيفة وتلك القوية، الجريئة والخجولة، "المعترة" وصاحبة النفوذ في الحب والحياة، فيروز بين الزوج والابن، فيروز بين عاصي وزياد.
فيروز والأخوين رحباني
فيروز وعاصي الرحباني |
بينما كانت فيروز تحكي عن حبيبها لأهالي الحي
كان يحكي عنها لنبعة المي، فيبقى اسم الحبيب موجودا ويختفي اسمها، في الوقت الذي
كانت فيه "على السطح سهرانة" حتى تجلب القمر لحبيبها ورغم التعب والنعس
ظلت "سهرانة" خوفا من أن تأتي جارتها وتأخذ القمر لحبيبها وتظفر به
وتبقى فيروز غريبة، لا سيما أنها كتبت 100 مكتوب وإلى الآن لم تجد الرد وهي تراقب
شباكه من بعيد فتزيد الغصة وجروح القلب حينما تجده "ع الوادي مفتوح" ، هواء
الوادي كان يصحي الشوق في قلبها ويزيد الفزع بأن تكبر هناك وتكبر فيها الغربة حتى
تعود البلاد لا تعرفها، حتى نادى حبيبها لها فلبت النداء من دون سؤال ليسرقها من
النوم وراحة البال، إلا أن الخيبة ظلت ترافق فيروز في مشوارها مع الأخوين الرحباني
حتى أنها فتحت الباب لتشرح للحبيب ما غاب فلم تجد إلا الورد عند الباب.
هذه فيروز التي رافقت صباحاتنا حزينة وغريبة، محبة بلا حساب أو جدال، خجولة ومنسية، خائفة وانطوائية، هكذا تشكل الحُب في أذهاننا، كما كان يريد الزوج والمجتمع. امرأة بصوت ملائكي تنتظر الحب بلا مواعيد، وتقدم الحب دون سؤال، وتجيب على الحب بالطاعة، وترضى بأن تكون المهزومة والراضية، المنسية والحاضرة إذا "ندهلها حبيبيها".
ربما يخطر في بال من يقرأ لماذا أقحمت
المجتمع في هذه النظرة، والجواب هو أنه رغم مرور الزمن وتنوع مشاعر الأنثى في داخل
أغاني فيروز، ورغم الثورة التي أحدثها زياد الرحباني ظلت الإذاعات – حتى يومنا-
تجد أن الفيروزيات هي بكتب اسمك يا حبيبي.
ثورة زياد الرحباني
فيروز وزياد الرحباني |
ابن أبيه كان يدندن الألحان في ذهنه يقولها
بصوت مرتفع فيسأل عاصي طفله "أين سمعت تلك الألحان" ليجيب " لم
أسمعها، ترددت إلى ذهني"، وهكذا تشكلت موهبة زياد بالفطرة، والنشأة في عائلة
الرحباني وفي حضن والدته الأيقونة. كتب ولحن قبل أن يصل عمر السابعة عشر حتى جاءت
الفرصة – الحزينة- عاصي كان في المستشفى وفيروز بطلة مسرحية "المحطة"
للأخوين الرحباني، ومنصور كتب أغنية "سألوني الناس" لتعبر خلالها فيروز
عن شوقها لزوجها عاصي، وأوكل العم مهمة التلحين للابن الذي ابتدع لحنا لم ينزل به
عن مستوى "الأخوين الرحباني" عام
1972.
الابن لم ير والدته الأنثى المنسية والخجولة،
فألف ولحن وذهب في صوتها إلى عوالم جديدة داخل الروح، فشكل أغنياتها على هيئة قصص
عاشها هو، ليجد بها حبيبته وليقول من خلال صوت ملائكي أن الرجل يحب ويسأل في الحب
"قللي شو يللي بعلقني بس فيك!" هذه الأغنية "عندي ثقة فيك"
تقول الروايات أنها إهداء زياد الرحباني لحبيبته الممثلة اللبنانية كارمن لبس الذي
عاش معها قصة حب انتهت بعد أن فشل في الالتزام والارتباط، لكن زياد ظل وفيا للمرأة
القوية حتى عند الشوق أعلنت فيروز عن شوقها بمنتهى الكبرياء وقالت " واضح إنك
ناسيني ومش محتاجة تواسيني"، هي ذاتها التي دافعت عن والدتها التي أبعدتها عن
حبيبها حينما قالت " هيدي أمي بتعتل همي منك إنت ملا إنت"، وهي التي
بالغت في كبريائها حينما قالت "إعشق علي إعشق.. ما بتعشق ما تعشق.. مش فارقة
معاي" لتكمل ثورتها في البعد والقسوة لتقول "تنذكر ما تنعاد ونشوفك بالأعياد
تعمر وتجيب ولاد بس انساني".
ففيروز ضاق خلقها من "الصبي" الذي فتش أغراضها وفتح
علبها أثناء ما كانت على "الوصلة" تغني وأبلغته بكل برود "لا مش
كله بسببي". هي أيضا
سخرت من نفسها حين غنت "يا ريت انت وانا بالبيت"... عاودت فاستدركت مع
زياد "بس كل واحد في بيت" وفِي نفس الأغنية تسخر من وعد الشاب الذي لم
يترك أي بلد إلا وعمل فيها وأخيرا عاد "منفض .. ولا قرش خبيت" وكل هذا مع
"فشخرة" حيث أنه عزّم الضيعة/ العشيرة/العائلة ولكن على "بيت لا
يسع"، المهم أن فيروز في آخر الأغنية تقول بوضوح "اذا ناوي على هالشكل
تأسس فرجعني على البيت".
فيروز وزياد |
حتى في الحب غنت بأنها لا تنسى المحبوب
والقصة لا صباح ولا مسا لكن هذا الوفاء كان بمقابل حيث ترك الحبيب
"الحب" وأخذ "القسا"،
حتى في الخريف كانت القوة جلية في الحب" هي قصة ماضي كان عنيف بس هلق ما
بتذكر شكل وجهك بس بتذكر قديش كان أليف"، وفي أشد أوقات الحنين والخوف قدمت
فيروز فيها من التناقض ما يمسح فكرة الانكسار حينما قالت " حبسي إنت وحريتي
إنت..إنت اللي بكرهوا وبحبه
إنت"، وأكمل زياد الرحباني مشواره مع
فيروز وقدمها بآخر ألبوماتها الجميلة "إيه في أمل" عام
2010.
هذه فيروز الثائرة أو كما قدمها زياد الرحباني كما يرى الابن والدته خارقة ساحرة وخارجة عن المألوف، أو ربما عكس فيها ما يراه هو لمعنى الأنثى وكيفية حبها وتمردها وقوتها، وهو ما لم يراه الإعلام ولم ينشره بقدر ما نشر مرحلة الأخوين الرحباني.
فيروز وثنائية الزوج والابن
سيقول الكثيرون أن هذا المقال قدم فيروز
وكأنها مسلوبة الإرادة قدمت على مزاج الرجل في حياتها وظلت محصورة بين مرحلتين
مرحلة الأخوين الرحباني ومرحلة زياد الرحباني وهذا هو الضعف الحقيقي، لكن من منا
يعرف جارة القمر المحتجبة عن الإعلام، من هي الأنثى التي كانت عليها، ربما لم تكن تلك ولا هذه كانت أذكى
من كل الرجال في حياتها، وتقدمت عليهم بما قدمت وظلت فيروز هي الأيقونة التي مثلت
الحب في كل أشكاله والوطن بقسوته وحنانه وغنت للبلاد بعيدا عن الطائفة والصراعات، فـ ظلت صوتا للتاريخ ينير طريق المحبة حتى لو انطفأت
.