انتهت رحلة البحث وبدأت رحلة الخوف!
عام 2005، بعد سقوط بغداد بعامين، كانت الأردن تستقبل موجة من اللجوء العراقي. حينها ارتفعت أسعار الشقق، وشهد سوق الإسكانات تطورًا واستثمارًا لا سيما في منطقة الرابية؛ إحدى ضواحي عمان الغربية التي تضم «فلل» واسكانات تقطنها الطبقة الوسطى للمدينة. رغم ذلك، أُجبرت أسرتي في ذلك العام على بيع بيتنا بخسارة، قبل أن يعرض للبيع في المزاد حيث كان مرهونًا للبنك، وتصبح الخسارة أكبر.
صورة لمدينة عمان القديمة، الأردن |
كان البيت كبيراً له ساحتان أمامية وخلفية، في الأمامية شلال ودالية تنتج عنبًا أسود، وفي تلك الساحة امتدت ليالي السمر حتى صباحات الصيف. حينما غادرنا البيت، كنا ثلاث شقيقات. أوصتنا أمي «تمنوا الخير لساكني الشقة الجدد»، فضبضبنا حزننا داخل الكراتين وعاودنا فتحها في بيتنا الجديد بالإيجار في غرب عمان أيضًا.
بعد خمسة عشر عامًا، أنا اليوم من مالكي الشقق في شمال عمان، التي أسكن فيها مع والديّ، لذا انتهت رحلة البحث وحسم الجدل القائل «بدل ما تدفعي على الفاضي. ادفعي واشتري الجدران»، بعد «حسبة» تقول إننا دفعنا عبر السنوات ما يقارب 63 ألف دولار دون الوصول إلى الأمان. ومعاني البحث عن الأمان موجعة حينما تجدها في عيون والديك بعد بلوغهما السبعين من غير إجابات واضحة عن «بكرا». فهما لم يتقاعدا بعد، لأنهما لم يأمّنا بيتًا للعمر المتبقي، وسط تحليلات اقتصادية تتحدث عن ضرورة إنقاذ الطبقة الوسطى والإنذار بأنها في طريقها للتآكل أو أنها تآكلت فعلًا!
البحث عن منزل مناسب لعائلة تقطن أحياء عمان الغربية ليست مهمة سهلة، لا سيما أن جهات التمويل تفرض شروطًا مرتبطة بصافي الدخل الشهري، وسنوات الاشتراك في مؤسسة الضمان الاجتماعي ونوع العقد الذي يربط طالب التمويل بالمؤسسة التي يعمل بها، بالإضافة إلى مجموعة من التعهدات وعشرات التواقيع. لذا فالرحلة لا تقتصر على إيجاد المنزل المناسب وحسب، بل أيضًا إيجاد الجهة التمويلية التي يمكن أن تستقبلكِ وحيدة، دون دفعة أولى، وتخفف أعباء القسط الشهري عليك.
استمعت إلى النصيحة وغادرت لأدفع قسطًا هنا والتزامًا هناك. حفظت أنواع الخشب ونشأتها ومدى التوفير الذي سأحصل عليه من «اللمبات» الموفرة للطاقة، وقررت أني سألغي وسيلة التدفئة بالديزل والغاز وسأختار الكهرباء
أمضيت عامين من البحث، بدأتهما في منطقة الشميساني وهي أحد أحياء عمان الغربية التي تضم منازل قديمة، كبيرة ومتقاربة. ورغم اكتظاظ المطاعم في شوارعها الرئيسية وكثرة الوقفات الاحتجاجية والمطلبية عند مجمع النقابات المهنية هناك، إلا أنها ظلت هادئة بمساحات واسعة وأسعار مرتفعة، وبذلك فإن امتلاك منزل في ضواحيها حلم في ظروفي الحالية، وبطبيعة الحال في أحياء أخرى غرب عمان.
كنت كلما خرجت للبحث أعود باستنتاج «منزل الإيجار ضمن معايير أرغبها أفضل من ترتيب قرض لعشرات السنوات في منزل ليس ضمن معاييري». إلا أن محاولات البحث كانت تتجدد كلما نفذ دخلي الشهري قبل أن ينتهي الشهر ودون أن أدخر شيئًا، أو حينما تضيع فرصة للعمل في الخارج. لذا خرجت من ضواحي عمان الغربية إلى شمال العاصمة، حتى وجدت شقة بساحة تتسع لـ دالية وماء وشرفات تتطل على شارع الأردن، أي أنه لا إمكانية لأن أصبح محاصرة بالإسمنت، ولن أخسر الإطلالة «الخلابة» التي يتحدثون عنها في إعلانات بيع الشقق!
المهم أن رحلة البحث انتهت والموافقة تمت، وأصبح لدي منزل بحاجة إلى قرض إضافي ليصبح صالح للسكن. ولأنني، كما أكثر من مليون أردني مقترض من البنوك، لن أتمكن حتى من زيادة ديوني، توجهت إلى «الكنز» التي تمتلكه السيدات وتخرجه في لحظات الحاجة: ذهبت إلى محل المجوهرات، ولحسن الحظ أن أسعار الذهب كان في ارتفاع، وقدمت ما أملك للبائع الذي أمسك سلسلة ذهبية مليئة بالحجارة وقال «حرام تبيعي هالسنسال .. احتفظي به إن أمكن». استمعت إلى النصيحة وغادرت لأدفع قسطًا هنا والتزامًا هناك. حفظت أنواع الخشب ونشأتها ومدى التوفير الذي سأحصل عليه من «اللمبات» الموفرة للطاقة، وقررت أني سألغي وسيلة التدفئة بالديزل والغاز وسأختار الكهرباء حيث عمدت الحكومات على تشجيع المواطنين لاستخدام البدائل الموفرة للطاقة، بل وجدت مبادرات لتوزيع «اللمبات»، كما تضاعف اهتمام الشارع الأردني بوجود البدائل بعد أن رفعت الحكومة الأردنية الدعم عن المشتقات النفطية عام 2012، مؤكدة أن هذا القرار لن يمس 70% من شرائح المجتمع.
في هذه الرحلة، كانت الحكومة ترافقني خطوة بخطوة: سأدفع رسومًا لساعة الماء تقارب 490 دولارًا، وللتنازل عن ساعة الكهرباء ما قدره 150 دولارًا. وفي شركة الكهرباء، نسيت وصل الحساب، فسمعت موظفًا يناديني «يا بنت يا بنت»، التفت له وأخذت الوصل وفي رأسي مئات المواقف التي تؤكد قدرة «البنت» التي لا يعرفها ولا يتوقعها ولن يفهمها. كنت أريد أن أعود وأقدم درسًا حول طرق المناداة واحترام الآخر، إلا أن ساعة الدوام ظهرت أمامي، وتذكرت ساعات المغادرة التي حصلت عليها في ذلك الأسبوع، وأنني لن أستطيع قضاء المزيد منها.
كان ذلك قبل أسبوع من إعلان رئيس الحكومة الحالي حزمة من الإجراءات لتحفيز الاقتصاد ضمن خطط لحكومة وعدت الشارع بنهضة ما، كان أهمها «التوسع في إجراءات إعفاء وتخفيض رسوم التسجيل والبيع للشقق والأراضي وذلك استكمالًا لإجراءات تحفيز العقار والإسكان ولتمكين المواطنين من امتلاك السكن الملائم». ولكن الوقت لم يكن في صالحي، فـ«راحت علي».
الرحلة كانت تزداد صعوبة كلما انتقلت من منطقة لأخرى لإتمام أوراق رسمية، حيث أن أزمة السير في تزايد نتيجة الإنشاءات والإغلاقات لإنهاء مشروع الباص السريع، أو ربما من أجل اعتصام. والباص السريع هو أمل للعمانيين بوجود شبكة نقل تخفف أعباء الديون بامتلاك سيارة أو مصاريف استخدام وسائل نقل أخرى، ومن المتوقع تشغيل الباص عام 2021 بتكلفة تقدر بـ193 مليون دولار.
إنها نهاية العام وبداية تجديد العقود، وبالتالي القرار بتجديد نمط الحياة أو البقاء على ما أنت عليه. أجلس في البيت أنظر إلى سقف الغرفة، أتذكر كيف أعجبت بالديكور والإنارة حينما دخلت الشقة أول مرة، فأغرق أكثر وأكثر في التفكير بغرفة الضيوف ومصاريفها وزاوية «الكورنر» الصحيحة، وسلفة العمل التي علي إغلاقها. أعرف حينها كم كبرت، وكم ذهبت بعيًدا عن أحلام الصبايا وكم خطوة يجب أن أقفزها إلى الخلف لتعود الأحلام كما كانت. حينها، رن هاتفي وكانت شركة المطابخ تذكرني بآخر دفعة حتى يجهز الجرانيت!
المهم، أن رحلة البحث انتهت، وبدأت رحلة الخوف لسداد الأقساط والالتزام بالدفعات للوصول إلى الأمان بتمّلك منزل وهذه رحلة عمر فيها من الفشل والنجاح ومعاني الفقد وحلاوة التجارب ما فيها، وفيها من الحزم والقرارات والإنشاءات والاحتجاجات والتغيير ما فيها، وفيها من التهديد والقلق والتوتر ما يدفع إلى شعورك أن خسارة ما قد تعود لا سيما أنني، في النهاية، لم أسمع النصيحة ولم أحتفظ بـ «السنسال»!